معاركُ نشبتْ بينها وبينَ ابنِها المراهق، هي تقولُ وهو يقولُ أكثر! ترفعُ صوتَها، ولكنَّه يستطيعُ أن يرفعَه أكثر! تشيرُ بيدِها، فيشيرُ بيدٍ أكبر! ثُمَّ قد يخرجُ من البيتِ ويتركُها مقهورةً منه وعليه، ويتكرَّرُ المشهدُ حتَّى متى؟ حتَّى كان يومٌ شعرتُ فيه أنَّ العَلاقةَ بينهما هي نقدٌ ونصح، وقتالٌ وخصام، ثُمَّ نقدٌ ونصح، وفي نفسِ ذلك اليوم وجدتُ ورقةً قديمةً مكتوبٌ عليها بيدٍ صغيرةٍ، عمرُها ستُّ سنوات: أنا أحبُّك كثيرًا يا ماما! إبتسمتُ لبراءةِ الخطِّ، والرَّسمِ والألوان، والقلبِ الأحمر والكلمات!
بني، حتَّى أنا أحبُّك، وأكثر مما تحبُّني، عادت تقولُ لنفسِها: ولكن ما الذي يُثبتُ أنَّني أحبُّه؟ ما الذي يثبتُ له هو شخصيًّا أنَّني أحبُّه؟
وأخرى، مرضت ابنتُها المراهقةُ مرضًا لم يعرفْه الأطباءُ، ثُمَّ تطوَّرتِ الأمورُ لدرجةِ أنَّها حاولتِ الإنتحارَ، والسَّببُ إحساسُها بالوحدةِ والنَّقصِ وعدم الحبِّ أو الإهتمام، يقول الأبوانِ: ولكنَّنا نحبُّها! فهل يوجدُ آباءٌ في الدُّنيا لا يحبون أولادَهم؟!
ويبقى السُّؤال: ما الذي يثبتُ لها هي تحديدًا أنَّ والديها يحبانها؟ الحبُّ في القلبِ لم يظهرْ ولم يُعبَّر عنه، وما يصلُها وما تقرؤه جفوتهما وتصحُّر قلبيهما.
لم يتأخرِ الوقتُ ولم يفُتِ الأوان، فالإصلاحُ ممكن، ولتكنِ البدايةُ جلسة صراحةٍ وإقرار وإعتراف وتصالُح، إقرارٍ بالحبِّ، وإعتراف بخطأ التعبيرِ عن الحبِّ، وتصالحٍ مع الأبناء، نحبُّهم إذًا، لا خلافَ، والحبُّ يعني الحنان والرَّحمة، والدِّفء والأمان، والدُّعاء والكلمة الطيبة، والإبتسامة والتسامح والصَّبر، ما دمنا نحبهم، فلنقلْ لهم ذلك صراحةً، ولنناديهم بحبيبي وحبيبتي، لنتركْ أيديَنا أيضًا تعبِّر، فتمسح على رؤوسِهم، وتلتف حول أكتافِهم وتربت عليهم رضًا، ولا مشكلةَ أن ندلك لهم أكتافَهم ورؤوسَهم، خاصَّةً إذا إشتكوا تعبًا، لننظرْ إليهم نظرةَ الرَّحمةِ والعطف والرِّضا، نجلس معهم ونشرب معًا الشَّاي أو القهوة، ونتحدثُ ونأخذ رأيَهم في أمورٍ مهمَّة ومصيرية، نمنحهم الثِّقةَ ونثق بهم، ونحمِّلهم مسؤولياتٍ مهمة، ونصبر على أخطائِهم، ونتعاهدُ معهم على رضا الله وعدمِ الخطأ في حقِّه سبحانه وتعالى وأنَّ ما يغضبُ اللهَ يغضبنا وبشدَّة، ويستوجِبُ العقوبة، ونتعاهدُ على الصِّدقِ والإعتراف أيًّا كان الموضوع، ومهما بلغت درجة خطورتِه نهتمُّ بصلاتِهم ودراستهم، ونؤكِّدُ على برِّ والديهم والرَّحمة بإخوانِهم وصلة أقربائهم، ولا نغفلُ أبدًا أنْ نربطَ كلَّ العاداتِ والآداب بما يحبُّ الله وما يحبُ رسولُه عليه الصلاة والسلام: هذا يرضي اللهَ، وهذا يحبُّه اللهُ سبحانه، وهذا لا يعجبُ الرَّسول صلى الله عليه وسلم وهكذا قال، وهكذا كان يفعل، مع كلِّ ذلك سيقبلون النُّصحَ والتوجيه والإعتراض وحتَّى العقوبة، وسيقرُّون أنَّهم يستحقُّونَ العقوبةَ، بل وسيروون لنا أخطاءَهم وسقطاتِهم وسيطلبون منَّا مساعدتِهم، وستمرُّ سنواتُ المراهقةِ هادئةً سلسة بسيطة، خالية تقريبًا من المشاكل، بل أكادُ أجزِمُ أنَّ أبناءَنا في هذا العمرِ سيزدادُ تعلُّقُهم بنا، ونصبح نحن أصدقاءهم الأهم.
كم هو راقٍ وذكيٍّ وحنون تصرفُ الرَّسولِ صلى الله عليه وسلم مع ذلك الشَّاب الذي جاءه يستأذنُ في الزِّنا! وجدتُني أسألُ نفسي: لماذا أتى يستأذن؟ ليحلِّلَ لنفسِه ما يفعل؟ لأنه لا يريدُ إغضابَ الرَّسول؟ لأنَّه يعلمُ أنَّ ما يطلبه أمرٌ بشع وخطأ وحرام؟ لأنَّه يعلمُ أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم سيريحُه من وسواسٍ في صدرِه؟ لأنَّ الرَّسول هو خيرُ من يحلُّ له مشكلتَه؟ ربَّما لكلِّ تلك الأسباب، ثُمَّ لنتأملْ كيف تصرَّفَ معه الرَّسول المربي الحنون صلى الله عليه وسلم: أدناه منه ليشعرَه بالأمان، وحاورَه بأسئلةٍ، يضعُ من خلالِها الشابَّ مكانَ كلِّ محارمِه «أترضاهُ لأمِّك؟ لابنتِك؟ لأختِك؟ لعمَّتِك؟ لخالتِك؟»، وأخيرًا دعا له: «اللهمَّ اغفرْ ذنبَه وطهِّرْ قلبَه وحصِّن فرجَه»، ولم يعد بعدها يلتفتُ الشابُّ إلى ذلك أبدًا.
المراهقون في عمر تزداد حساسيتهم، وهناك ضغطٌ لا شك عليهم بسببِ ما يحدثُ في أجسامِهم وأحجامِهم من تغيُّرات، ونزيدُ الضَّغطَ نحن عليهم بمشاكلِنا معهم.
ليس الأسلوبُ المناسب أبدًا أن يكونوا تحت مجهرِنا: لماذا فعلت؟ ولماذا تركت؟ ولا تخرجْ من البيتِ، ولا تشاهدي هذا، وممنوعٌ ذاك، عندها سيهربُون منَّا إلى الأصدقاء والصَّديقات، بحثًا عمن يهتمُّ بهم ويحبُّهم، ويستمعُ لشكاواهم، وتصلُ الأمورُ فعلاً إلى مشاكلَ خطيرةٍ يصعبُ علاجُها: فقد يدخِّنون، وقد تنشأُ بينهم وبين أمثالِهم عَلاقاتٌ شاذَّة، وفي نفسِ الوقتِ ليس المناسبُ ولا الصَّواب أنْ نتركَهم يفعلون ما يحلُو لهم وما يريدون دونَ ضوابط أو رقابة، ولكنَّنا لن نحتاجَ إلى الكثيرِ من الرقابةِ إن نحن وفَّرنا بيتًا فيه الحبُّ والصِّدقُ، والحوارُ والتربية الإيمانية.
بالمناسبةِ فإنَّ كلمةَ المراهقين لا تعني المتعِبين، وإنَّما هي من -راهق- وتعني القُرب من سن الرُّشْد.
الكاتب: إيمان شراب.
المصدر: موقع منبر الداعيات.